آلة الحرب .. تلاحق اليمنيين إلى مخيمات النزوح وتفاقم من مأساتهم
سيئة هي الحرب، وأسوأ ما فيها أن تتكالب على من طحنتهم الحياة بويلاتها المختلفة، كذلك هو الحال مع السيدة نامسة محمد زين، التي تنحدر من مديرية حرض شمالي محافظة حجة، إذ وجدت من الحرب الدائرة هناك، الحلقة القاصمة في سلسلة معاناتها المتلاحقة.
تفاقمت أوضاعها الإنسانية الصعبة، فلم يعد بمقدورها لملمة ما تبقى من رمق لحياة أسرتها القاسية، بدءا بوضعها المادي المدقع وإعاقة ابنها الوحيد، ومرورا بهروبها من نيران المعارك وإصابة ابنتها بسقوط مقذوفات، وليس انتهاء بمرضها ونزوحها إلى عراء الصحراء القاحلة بتضاريسها القاسية.
مسلسل النزوح
كانت المرأة الستينية تعيش مع أسرتها في قرية الخرشة التابعة لمديرية حرض، قبل اقتراب لهيب المعارك من مساكنهم في العام الماضي، أُجبرت حينها على النزوح مع أهالي قريتها إلى منطقة شليلة التي وجدتها ملاذا آمنا.
لكن لم يدم استقرارها وأسرتها في قرية شليلة طويلا، إذ استهدفهم الحوثيون بقذائف مطلع العام الجاري، أسفرت عن سقوط ستة عشر مدنيا بين قتيل وجريح، غالبيتهم من النساء والأطفال.
اضطرت حينها برفقة جميع الأهالي النازحة البالغ تعدادهم أكثر من ستمائة شخص من النساء والأطفال والشيوخ، للهروب مجددا ومغادرة قرية شليلة علها تجد مكانا أكثر أمانا، فنصبت لهم قوات الحكومة الشرعية خياما لإيوائهم بدعم من مركز الملك سلمان للإغاثة الإنسانية.
إلا أنها وغيرها من الأهالي كانوا مجددا في مرمى قذائف الحوثيين، فبعد نحو أسبوعين على انتقالها لمخيم النازحين، استيقظت على مجزرة أخرى بسقوط مقذوفات، راح ضحيتها قرابة الخمسة والثلاثين نازحا بين قتيل وجريح.
وللمرة الثالثة، كان على الأم نامسة ترك هذا المخيم لتلحق بموجة النازحين المتجهين نحو المجهول والصحراء الممتدة، في محاولة مستميتة للهروب من النيران التي أخذت منهم الكثير، وللبقاء على قيد هذه الحياة القاسية.
ضريبة القصف
ومنذ رحيلها الأول، كانت هذه العجوز تتلقى الخسائر مع كل مصيبة تحل عليها، سواء بفقدان منزلها المبني من اللبن، أو مصدر دخلهم البسيط، أو بترك ما لديها من مقتنيات متواضعة وتعرضها للتشرد وتفاقم حالتها الصحية.
بيد أن القصف الحوثي الأخير كلفها الكثير من الخسائر، حين وقفت عاجزة أمام إصابة ابنتها بذلك الهجوم، وبدمها المتطاير من يدها النحيلة، قبل أن تهرع الفتاة إلى أمها طلبا لنجدتها وتضميد جراحها، على حد وصفها لـ “يمن ستوري”.
ومنذ إسعاف الفتاة إلى مستشفى الطوال في المملكة العربية السعودية، أخذت الأم ترد بنبرة يائسة، على الاستفسارات حول مصير ابنتها المصابة، بأنها لا تدري إن كانت لا تزال على قيد الحياة أم لا!.إذ لا يمكنها مرافقة ابنتها في المشفى الحدودي، أو حتى زيارتها للاطمئنان على حالتها الصحية، سوى بالسؤال لمن يزورها إن كان يعلم شيئا عن وضع ابنتها لتطمينها أو قطع الشك باليقين حول مصيرها.
التحدي الأكبر
لم تكن إصابة ابنتها في ذلك القصف الصاروخي على مخيم النازحين أواخر الشهر الماضي، فاجعتها الكبرى وحسب، أمام خوفها على ابنها الكسيح وارتعابه، سواء: من دوي انفجار الهجوم الصاروخي، أو على حال أخته المضرجة بالدماء أمام ناظريه.
وعقب إسعاف جرحى القصف إلى المستشفيات وفرار النازحين من المكان، ظلت الأم حبيسة مكانها بجوار ابنها المعاق، إذ لم يكن بمقدورها مرافقة النازحين في ترحالهم، بسبب عجزها عن الفرار بابنها الوحيد لمكان آمن خشية سقوط مقذوفات أخرى.
ومع إصابة ابنتها الكبرى التي كانت بمثابة يدها اليمنى في مواجهة الصعاب، ازدادت معاناة الأم في مختلف حياتها، لاسيما فيما يتعلق بابنها الكسيح من اهتمام ورعاية أو التنقل به من مكان لآخر.
كانت معاناتها مع ابنها المعاق الذي لا يقدر على النجاة بنفسه والمجبر على البقاء في مكان غير آمن، وحسرتها عليه؛ تحديها الأكبر أمام معاناتها وحسراتها المتتالية عموما.
المصائب لا تأتي فرادى !
ولعل ما قصم ظهرها في ذلك الشقاء، ألا تجد سندا ترزح عليه بكاهلها، فزوجها أيضا يعاني من حالة صحية سيئة إلى جانب فقدان السمع الجزئي، وصعوبة بالغة في النطق، أي ليس بمقدوره مواساتها سوى بالتأمل عن بعد لأهوالها المتساقطة.
ومع وضع زوجها المعقد كان لزاما عليها الاهتمام به ومنحه جزءا من طاقتها المهدورة في كل ذلك الشقاء، فلم يعد لديها في رحلة عذابها غيره وابنها المعاق وابنتها المصابة، إضافة إلى حالتها الصحية المتدهورة، وحزنها الدائم على نصيبها من الحياة.
ورغم التعب الشديد الذي تقاسيه هذه الأم، إلا أنها تأبى أن يبدو ابنها أمام الأنظار، سوى رجلا رزينا ذو هيبة ووقار، فكانت تنهره عما يسره، كما نهرتها الحياة عن بهجتها ذات يوم.إذ لا تزال نبرتها الحادة لا تفارق الأسماع، عندما التفت إلينا وبدأ في الضحك والابتسام بعفوية طفل، فخاطبته قائلة: “لا تضحك.. غلق فمك.. كن رجل”، وسرعان ما تغيرت ملامحه الطفولية إلى صرامة حزينة ومنكسرة.
وفي ظل غياب جهود السلطات المحلية ومنظمات الإغاثة الإنسانية من التدخل لإنقاذها وغيرها من الأسر العالقة بين معاناة الواقع المر في مخيم النزوح وتفاقم الحرب في مناطقهم، تبدو حياة هذه الأسرة التي تحولت إلى جحيم، في معاناة مستمرة لا سيما مع نية اطراف الصراع في البلاد على الا تضع الحرب اوزارها، حتى وإن دوت مسامعهم بصوتها المتعب وهي تلازم القول: “انا مقهورة ومغلوبة ومظلومة”.
وتزايدت أعداد النازحين داخلياً في اليمن نظراً لتوسع رقعة المعارك، وبلغت أعداد النازحين عام 2017 مليونين وثلاثمائة وخمسين ألف شخص، لكن العدد ارتفع في 2018 إلى 3 ملايين وثمانمائة وخمسين ألف شخص، بزيادة مليون وخمسمائة ألف شخص، أي قرابة 60 في المائة، حسب تقرير رسمي للحكومة اليمنية.
وتعتبر محافظة حجة إحدى أكثر المحافظات تضرراً بسبب الصراع القائم في اليمن، لذلك، زادت أعداد الأشخاص النازحين بصورة حادة بسبب أعمال العنف في جميع أنحاء المحافظة خلال الاشهر الستة الماضية من 203,000 إلى حوالي 420,000 شخص، وينتشر النازحين في ما يزيد عن 300 تجمع للنازحين في مختلف المديريات بحسب الأمم المتحدة.
المصدر| يمن ستوري/محمد يوسف