حضارة اليمن .. في مهب الحرب والتهريب
دفعت عمليات النهب والمتاجرة بآثار اليمن، خلال سنوات الحرب، الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا لتقديم طلب إلى السلطات الأمريكية، لمنع تداول الآثار والتحف اليمنية في سوق الولايات المتحدة.
وزير الثقافة اليمني، مروان دماج، أكد أن الحكومة تقدمت بطلب إلى نظيرتها الأمريكية لمنع تداول الآثار والتحف اليمنية، وأشار أن اللجنة الاستشارية بالإدارة الأمريكية ستجتمع، في 29 أكتوبر/ تشرين أول الجاري، لمناقشة طلب اليمن، وفق وكالة “سبأ” الرسمية.
وأوضح المسؤول اليمني أن الطلب يأتي بناءً على المادة التاسعة من اتفاقية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونيسكو”، التي أنهى اليمن إجراءات المصادقة عليها مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، وأشار أن السفارة اليمنية في واشنطن تبذل جهودًا كبيرة لمنع تداول الآثار اليمنية في السوق الأمريكية.
ثنائية التهريب والحرب
وتعرضت آثار اليمن إلى أشكال شتّى من الاعتداءات التي تفاقمت منذ بدء الحرب قبل خمسة أعوام؛ حيث طال القصف والتدمير والنهب والإخفاء والتهريب عدداً غير قليل من تلك الآثار، التي يُقدَّر عمر جزء كبير منها بقرابة خمسة آلاف عام، وكانت أحدث عمليات النهب والتهريب في يونيو/ حزيران 2018، حيث أحبطت السلطات العمانية عملية لتهريب ٥٢ قطعة أثرية يمنية في منفذ المزيونة الحدودي.
وتعد تلك الآثار بقايا الممالك اليمنية القديمة التي شهدت تنوّعاً حضارياً وثقافياً، جعل من البلد واحداً من أكثر بلدان العالم ثراءً في مخزونه الأثري، الذي يتنوّع بين قصور وقلاع وأسوار وتماثيل وقطع زينة وسيوف ورماح ودروع ونقوش ومخطوطات ومومياوات.
لكن تلك الآثار، التي لا توجد إحصائيات رسمية حولها، باتت اليوم عرضةً لكل المخاطر التي تترصّدها من قِبل أطراف الصراع، الداخلية منها والخارجية، ففي آذار/ مارس 2017، استطاع تسعة عشر يهودياً يمنياً ذهبوا إلى “إسرائيل”، ومن بينهم حاخام الجالية اليهودية، تهريب مخطوطة للتوراة يُعتقَد بأنّ عمرها يتراوح بين 500 و600 عام، لتتهم وزارة الثقافة في حكومة عبدربه منصور هادي جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) بتسهيل العملية، واستفادتها من بيع آثار اليمن.
يقول رئيس “الهيئة العامّة للآثار والمتاحف”، مهند السيّاني، “في تلك القضيّة، قامت الصهيونية بلعبة سياسية لإيصال رسالة مفادها بأنّها قادرةٌ على اختراق اليمن وأخذ ما تريد منه في أيّ وقت”، مُلقياً باللائمة على مسؤولي مطار صنعاء الذي هُرّبت المخطوطة عبره: “كان عليهم أنْ يتّصلوا بمندوب الآثار في المطار ليسألوه عن أهميّتها وقيمتها، لكن ذلك لم يحدث”. ومن المعروف أنَّ كثيراً من العائلات اليهودية في اليمن تحتفظ بنسخ قديمة من التوراة.
وخلال أقل من عشر سنوات، بِيع ما لا يقلّ عن مئة قطعة أثرية من اليمن في مزادات علنية بمبالغ تُقدَّر بمليون دولار أميركي في كلّ من الولايات المتّحدة وأوروبا والإمارات، وتشملُ تلك القطع نقوشاً قديمة وتماثيل ومخطوطات تعود إلى العصور الوسطى، بحسب ما كشف موقع “لايف ساينس” المختصّ في العلوم والآثار مطلع العام الجاري.
وتحتوي بعض تلك القطع على معلومات مفصّلة عن موطنها الأصلي وتاريخ نقلها الذي يعود إلى عقود ماضية، بينما لا يتضمّن البعض الآخر أيّة تفاصيل، ما يعني أنها نُقلت مؤخّراً.
أسواق داخل اليمن
ويؤكد الأستاذ في قسم الآثار بجامعة صنعاء، علي سعيد سيف، ” أن القطع الأثرية تعد حلقات علمية متسلسلة، تدل على مستوى تطوّر حضارةٍ من الحضارات علمياً وثقافياً وفنياً وعسكرياً، ومراحل ذلك التطور وتنوّعه مكانياً وزمانياً، وبالتالي فإن عملية تهريبه وبيعه تُفقِد البلد حلقةً علمية من حلقات هويته التاريخية”، مضيفاً: “من شأن ذلك أن يُحدث فجوةً تاريخية كبيرة، فاليمنيّون برعوا في كثير من العلوم والآداب والفنون، لكنَّ كل ذلك يظلُّ مجرّد حديث ما لم تكن هناك آثار تؤكّده”.
وفي منطقة دوعن بمحافظة حضرموت، فُتح أكثر من عشرين محلّاً لبيع الآثار اليمنية في وضح النهار قبل أشهر قليلة، ونشر الباحث اليمني عبد الله محسن على صفحته في فيسبوك بلاغاً بذلك إلى كلّ من وزير الثقافة ومدير مكتب الثقافة في حضرموت ورئيس “الهيئة العامة للآثار والمتاحف” في اليمن. وبعد يوم من ذلك، نشر مدير مكتب ثقافة حضرموت، رياض باكرموم، أنَّ الأجهزة الأمنية ألقت القبض على عدد من المتاجرين بالآثار.
ينفي سكّان المحافظات الجنوبية المعلومات المتداولة بخصوص بيع الآثار، مفضّلين الحديث عن العبث المتواصل بآثار اليمن من قِبل أطراف الصراع في اليمن.
ومع احتدام الحرب في اليمن، ارتفعت وتيرة شحنات القطع الأثرية المرسلة من السعودية إلى الولايات المتّحدة، ومؤخّراً، وضع “ائتلاف تحالف الآثار”، وهو منظّمة غير حكومية تُكافح بيع القطع الأثرية المنهوبة، قائمةً تضمّ 1631 قطعة جرت سرقتها من العديد من المتاحف اليمينة.
إهمال الدولة يشجع التهريب
وعن أسباب استمرار ظاهرة التهريب، يرى مدير عام “حماية الآثار والممتلكات الثقافية”، عبد الكريم البركاني، في إهمال الدولة حماية ممتلكاتها الثقافية، وضعف التشريعات والقوانين الخاصة بحماية التراث، إضافةً إلى “قلّة التوعية في أوساط المجتمع بأهمية الحفاظ على الممتلكات الثقافية”.
من جهة أُخرى، دفع الوضع المعيشي الذي تسبّبت فيه الحرب والصراع السياسي المستمرّ منذ قرابة عشر سنوات، بالكثير من السكّان القاطنين بالقرب من المناطق الأثرية إلى اعتبار تجارة الآثار مهنةً تُدرّ الكثير من المال دون بذل الكثير من الجهد.
لكنّ هذا النشاط لا يقتصر على هؤلاء؛ بل إنه “كثيراً ما يمارسه أشخاصٌ في هرم السلطة أو من النافذين في الدولة، والذين يستفيدون من الحماية من المساءلة بفضل مناصبهم”، كما يؤكّد علي سيف، قبل أن يُضيف: “لا يوجد قانون آثار قوي في اليمن، كما أن الحكومة لم تطبّق القانون المتساهل، وإذا طبّقته فإن هناك من يقوم باختراقه من الحاصلين على الحصانة”.
بسبب وجوده في مفترق طرق تجارية عالمية، شكّل اليمن مسرحاً للتبادل الثقافي مع شعوب المنطقة وملتقىً للتجارة بين الشرق والغرب، كما يُعدّ، إضافةً إلى ذلك، موطناً للبن والمُر والبخور، وهو ما جعله يزخر بكمية كبيرة من العملات الذهبية التي تعود إلى العصر الروماني، بالإضافة إلى التماثيل الرخامية، والمخطوطات النحاسية والمخطوطات العربية والعبرية التي مرّت عليها عدّة قرون.
الصراع والسوق الأمريكية
وتشير أبحاث لـ “تحالف حماية الآثار” إلى أن آثاراً يمنية بيعت في الولايات المتحدة بما قيمته ثمانية ملايين دولار خلال العقد الماضي، كما أسهم “التحالف” لاحقاً، وإلى جانب ما دمّره من تاريخ اليمن وآثاره، في خلق جو فوضوي كان له أثر كبير في إفساح المجال أمام لصوص الآثار.
ويقول عبد الكريم البركاني، إنَّ “تهريب الآثار والاتجار بها من قبل مافيا التاريخ يُهدّد هوية اليمن الممتدّة عبر التاريخ، إذا لم تكن هناك استراتيجية وطنية لحمايتها”، مضيفاً أنَّ “إصدار تشريعات صارمة متمثّلة في قانون الآثار الجديد، الذي يقبع في أدراج الحكومة ومجلس النوّاب منذ عدّة سنوات، سيحدّ من المشكلة، لأنه يشمل تعديلات على مواد القانون القديم لسنة 1997، وفيه نصوص صارمة بمعاقبة مرتكبي مظاهر الاتجار بالتاريخ”.
ويُحمّل اليمنيّون أطراف الصراع في الداخل والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، مسؤولية الاعتداء على تاريخهم، فالأخيرة تُعدّ مركزاً لبيع وترويج التاريخ المسروق.
المصدر| يمن ستوري/ العربي الجديد