نزوح فخار اليمن.. أبرز الحرف تواجه خطر الانهيار
عندما ترك محمد سنان بلدته حيس في محافظة الحديدة قبل نحو عامين ونصف، فاراً من الحرب والمعارك التي كانت دائرة بضراوة في مناطق الساحل الغربي من اليمن، ظن حينها أنه قد تمكن من إنقاذ أسرته ومهنته، ليبدأ حياة جديدة أفضل في العاصمة صنعاء التي نزح إليها كغيره من سكان هذه المناطق ممن تشردوا في بقاع متناثرة لم تصل إليها الحرب في اليمن.
استقر سنان وأسرته في دكان صغير بمنطقة الحصبة شمال صنعاء اتخذه كمسكن ومقر لعمله في صناعة الفخار، المهنة التي برع فيها وأتقنها في منطقته حيس التي تشتهر بكونها موطن صناعة الفخار في اليمن، إذ تحمل كثير من الأصناف والمنتجات اسم موطنها الرئيسي حيس، إحدى مناطق الساحل الغربي من اليمن التي تشهد اشتباكات وتوترات متواصلة باعتبارها منطقة تماس بين طرفي الحرب.
يقول سنان لـ”العربي الجديد”، إنه شعر بالصدمة من الوهلة الأولى التي توجه بها إلى الأسواق حاملاً معه بعض الأواني والاحتياجات المنزلية، لتسويقها إلى مراكز ومحال تجارية عاملة في بيع الأواني والمستلزمات والأدوات المنزلية، إذ فوجئ بتصريف كمية محدودة للغاية بدأت تتناقص بشكل تدريجي فيما بعد، حتى عندما قرر بيع منتجاته الفخارية في دكانه كان الإقبال ضعيفا جداً كما هو الحال في الأسواق التجارية.
رغم ذلك يصر سنان على عدم ترك مهنته التي لا يتقن غيرها والمتوارثة في عائلته وكثير من العوائل في منطقته، مؤكداً أن الحرب قد أفقدته حياته ومنطقته وورشته التي يعمل عليها في صناعة الفخار، لكن لا يزال يقاوم فقدان مهنته.
وتوثق مراكز أبحاث يمنية صناعة الفخار بأنها أقدم الأعمال الحرفية في اليمن والتي ترجع إلى القرن السادس عشر، بحسب اكتشافات بعثات أجنبية ودراسات قسم الآثار بجامعة صنعاء، إذ عثر على فخار خشن الملمس من النوع البسيط جدا في صناعته.
ويستخدم الفخار المصنوع في أغراض عملية إلى حد كبير، فهو يشمل أواني ذات ملمس ناعم لحفظ المياه وأواني للطبخ وأكواباً تتخذ أحجاما وأشكالا متنوعة. ومن أهم الأماكن التي تشتهر بصناعة الفخار في اليمن تهامة كحيس وزبيد والجراحي وبيت الفقيه، تليها عتمة ووصابين وريمه والحجرية والعديد من مناطق صنعاء وحضرموت.
وتتكدس في أسواق صنعاء القديمة أصنافا عديدة من منتجات الفخار المصنعة محلياً، جزء منها تنتجه ورش في الصناعات الحرفية تعمل في هذه الأسواق، والتي تنتج كذلك عديد الأصناف الأخرى من الأعمال والصناعات اليدوية والحرفية التي تميز هذه الأسواق العتيقة ليس في صنعاء فقط، بل في كثير من المدن والمناطق اليمنية.
وتتسبب حالة الركود في هذا المجال وغيره من الصناعات الأخرى بخسائر فادحة لليمن، إذ تسببت الحرب في انكماش تراكمي واسع في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قدره تقرير رسمي بنحو 46.1% للفترة ما بين 2014 و2019.
ويرجع التاجر علي المطري، وهو مالك إحدى الورش العاملة بالصناعات الحرفية في صنعاء، سبب تراجع هذه المهنة التاريخية وانخفاض مبيعاتها إلى الصراع الدائر في البلاد، وانخفاض القدرات الشرائية لليمنيين مع تردي الأوضاع المعيشية وفقدان مصادر الدخل، وما رافق ذلك من تغير اهتماماتهم لتلبية ما أمكن من القوت الضروري اليومي.
ويشير المطري لـ”العربي الجديد”، إلى سبب آخر في الإضرار بهذه المهنة والصناعة الحرفية، وهو المنتجات المستوردة التي يتم جلبها إلى الأسواق اليمنية، والتي لم تستطع الحرب إيقافها مع وصول هذا الإغراق إلى الفخار الذي يعد من أهم الحرف التي يتميز بها اليمنيون.
وقدر تقرير حديث لقطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية الحكومي بالتعاون مع اليونيسف والبنك الدولي، أن تصل الخسارة التراكمية في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى حوالي 181 مليار دولار في حال استمرت الحرب في اليمن عامين إضافيين.
يشرح العامل في صناعة الفخار منصور الوافي في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن التراب والرمل أهم مكون للمواد الفخارية، والذي يتم مزجه بالماء ليتحول إلى مادة طينية بعد نقعه وتصفيته وتكويره، ليصبح كعجينة لينة قابلة للتشكيل إلى عدة تحف مختلفة الأغراض والأحجام. ويضيف: ثم تجفف في ضوء الشمس قبل وضعها في أفران خاصة توقد النار فيها لفترات متفاوتة، بعد ذلك يتم تحديد الأدوات ونوعيتها للبدء في صناعة المنتجات الفخارية حسب نوعية كل شكل وحجمه والغرض منه.
ويصر عديد من المهنيين العاملين في هذه الصناعة على عدم تركها والتخلي عنها، مؤكدين أنهم يبذلون قصارى جهدهم للإبقاء على هذه المهنة ومنتجاتها التي يحتاج إليها اليمنيون، إذ ما يزال بعضهم يجدون ضالتهم في منتجات الفخار اليمنية التي يفضلونها على المنتجات المستوردة مثل الأواني الخاصة بالمياه، والتي يطلق عليها في اليمن “الأكواز” والمواقد الفخارية وبعض الأصناف الأخرى المطلوبة كثيراً في المطابخ اليمنية والمطاعم التي تقدم الوجبة اليمنية الشهيرة “السلتة”.
وتعاني الأعمال والصناعات الحرفية والمهنية في اليمن من تبعات الحرب والصراع الدائر في البلاد مع غياب أبسط مواد الإنتاج والمعدات التي تحتاج إليها، فضلاً عن مضاعفات كارثية لوضعية الأسواق المحلية التي تغرق بالسلع والمواد المقلدة والمستوردة من الخارج، والتي أثرت على بعض الأعمال والمهن والحرف التي طبعت جزءا كبيرا من المجتمع اليمني، والذي يعتمد على مثل هذه الحرف كمصدر دخل وحيد.
ويفتقد مجتمع الحرفيين والمهنيين في اليمن للاهتمام بمنتجاتهم وافتقارهم للمواد الخام التي تستند عليها أعمالهم، الأمر الذي تسبب في توقف نسبة كبيرة منها بشكل تدريجي منذ بداية الحرب قبل نحو ستة أعوام.
ويوضح عضو الاتحاد اليمني للصناعات الحرفية عادل طامش، لـ”العربي الجديد”، أن هذه الحرف الصناعية تعرضت للإهمال وعدم الاهتمام بها، وإدراك أهميتها في مكافحة البطالة والفقر، مشيراً إلى تركز نشاط محدود على استخراج ومعالجة وبيع مواد البناء مثل الحجر الجيري الذي يتم استغلاله تجارياً لصناعة الإسمنت وبعض الاستخدامات الصناعية الأخرى المتنوعة، بينما فقط الملح الصخري هو الذي يتم استغلاله تجارياً في السوق المحلية وللتصدير.
المصدر | العربي الجديد